هز الطبيب رأسه مستنكراً ردي عليه وهو يردد تلك العبارة التي مللت سماعها " الأطعمة المالحة مضرة بجسمك وتسبب لك المشاكل الصحية " ولكني لا أنفك ألقمه جوابي الذي لا مجال لتبديله بآخر " أحب الطعام المالح " .
لا أحد ممن حولي يعي سر ولعي الشديد بالطعام المالح، البعض يسدي لي النصح محاولاً إقناعي بالابتعاد عنه، معللاً ذلك بأن الحياة فيها من المرارة والملوحة ما يكفينا ، وزوجتي ضجرت من كثرة ما أخبرتني أن الأطعمة المالحة تسبب السمنة التي أعاني منها أصلا ، لا آبه بما يقال لي وكأن في أذني وقرا ، في ثنايا روحي وأعماق ذاتي أعلم جيدا لم أحب الطعام المالح ولن أكف عن تناوله .
لا أحد ممن حولي يعي سر ولعي الشديد بالطعام المالح، البعض يسدي لي النصح محاولاً إقناعي بالابتعاد عنه، معللاً ذلك بأن الحياة فيها من المرارة والملوحة ما يكفينا ، وزوجتي ضجرت من كثرة ما أخبرتني أن الأطعمة المالحة تسبب السمنة التي أعاني منها أصلا ، لا آبه بما يقال لي وكأن في أذني وقرا ، في ثنايا روحي وأعماق ذاتي أعلم جيدا لم أحب الطعام المالح ولن أكف عن تناوله .
كنت الولد الأوسط بين خمسة أخوة، لم أتربى في أسرة رغيدة مترفة ،ولا في أسرة يسودها الأمان العاطفي ، هي فقط أمي من كانت تمنح طفولتي شعاع نور، كنت منبوذاً من أخوتي الكبار ،لأنني كنت ضعيف البنية وكان أولاد الجيران يتنمرون عليّ ، كان أخوتي يخجلون من ضعفي ، كنت أعود للبيت باكياً فتستقبلني أمي بضمة لصدرها وتقول : " أولاد ..عندما تكبر ستكون ذا شأن وأولئك الفاشلين سيكونون في أدني المراتب أنت الأذكى في الحي لذلك يغارون منك ويضايقونك " ، كانت تكفكف دمعي وترسم لي ابتسامة وتريني الأحلام الجميلة التي يعجز أولاد الجيران عن رؤيتها ،
فأخلد للنوم وحبور يغمرني أن لي أماً مثلها ،لكني كنت أشعر بتمزق داخلي عندما كنت أستيقظ ليلاً لأجدها تبكي ، وأعجز عن ضمها وأن أريها الأمور من منظور آخر كي تخلد للنوم والحبور يغمرها ، لاأعلم حتى بعدما كبرت لم كنت أصاب بالعجز ، عاجز عن أمور كثيرة عن فهم سبب ضرب أبي لها ، لم كانا يتشاجران ؟، لكني الآن أدرك تماما لم تحملت تلك الحياة ،فقط لأجلي أنا وأخوتي لم تشاء أن تشتت فينا بقايا الأسرة أو أن تتضاربنا أمواج الظلم الاجتماعي .
كانت تعمل نهاراً في أحد المصانع كعاملة وبعدما تعود من العمل تقوم بأعمال المنزل ، لا أذكر منزلنا يوماً متسخ أو أنها تقاعست عن إعداد الطعام يوما أو قصرت في خدمة أحدنا ، أعترف كلنا ظلمناها ، في البداية أبي الذي تخلى عن مسؤولياته كأب وتحملتها هي ، رغم ذلك لم يكن لها شاكراً ،بل كان متجبراً قاسياً كان معها " حقيراً " ،
كلمة لا تقال من ولد بحق أبيه لكنها الحقيقة ، وأنا وأخوتي الصبية الخمس لم نساعدها يوماً في أعمال المنزل، بل على العكس كنا نتذمر من كل شيء ، وعندما كبرنا أدرنا لها ظهورنا وذهبنا بعيداً،كل اختلق عذره وبرر لنفسه ولكن الحقيقة أنه لا مبرر لنا ، هي كانت تسعدها سعادتنا ، تحملت الظلم ونحن صغار فلم يثقلها أن تتحمل جفائنا بعدما كبرنا ، آه ..ماذا أفعل الآن بعد فوات الأوان ؟! ليتك تعودين للحياة فقط لأقول لك كم أنا آسف للتقصير بحقك صغيراً وكبيراً .
تجرفني الذكريات لذلك اليوم عندما دعا أبي أهله لتناول الطعام عندنا، أخبرته أمي مسبقاً أن لديها عمل ، لم يبالي وأمرها بإعداد الطعام وأن يكون من أجود الأصناف ،يريد أن يكرم أهله ! .
استيقظت أمي باكراً جدا قبل صلاة الفجر بكثير ، وبدأت بتجهيز الطعام الذي اشترت جميع مكوناته من نقودها لتكرم أهل أبي ، وعندما لاح الصباح وحان موعد مدرستي ذهبت هي لعملها ، لم تغيب طويلا في العمل كعادتها استأذنت رب عملها وعادت للبيت قبل الظهيرة لتجدني متغيب عن المدرسة ،لا اعلم لم رغبت يومها في مساعدتها كنت قد رتبت المنزل في غيابها ، أكملت إعداد الطعام وجهزت السفرة ، جاء ضيوفنا المنتظرين ،جلسنا جميعا حول المائدة كان الطعام شهي الرائحة، شهي المنظر، لكنه مالح فثار أبي غضباً بوجه أمي أمام جدي وجدتي وعمتي، بدأ بإهانتها بألفاظه سامة ، الجميع صمت لكني لم أتحمل ثورة أبي ، أبعد ما تكبدته من عناء أهذا شكرها ؟!! لم أشعر بالعجز لحظتها عندما وقفت في وجهه صارخاً " كفى ..كفى.. أنا من أضاف الملح للطعام أثناء غيابها في العمل "
كانت صرختي كفيلة أن يقف أبي دقيقةً مشدوها مصدوما من كلماتي، ليسأل غاضباً : لماذا ؟؟
كانت صرختي كفيلة أن يقف أبي دقيقةً مشدوها مصدوما من كلماتي، ليسأل غاضباً : لماذا ؟؟
فأخبرته بهدوء ببرود لا أعلم كيف استعمرني : لأني أحب الطعام المالح .
كانت أول مرة في حياتي أتلفى عقاب على شيء لم أفعله بكل سعادة ورضا ، ومنذ ذلك اليوم وأنا أحب الطعام المالح ولم أكف عن حبه .