كان صوت المطر يُطرب الأشجار وحباته تعانق التراب، والبشر يختبئون من دفئه الكامن خلف برودته تحت مظلات تجنبهم عناقه، بينما هي كانت تشارك المزن الاحتفال فكانت مزن مقلتيها سخية العطايا، يختلط ماء السماء بماء عيونها الحار من حرارة اللوعة والألم ،حدقت في سطح البحيرة التي ارتسم على وجهها تلك اللحظات الهاربة من ذاكرتها المثقلة به، وصرير ذلك الجسر الخشبي ــ الذي كان يحمل جسدها جريح الروح ــ من وقع أقدام المارة كان عاجزاً عن اختراق بوابات أذنيها فلم تكترث بالعابرين من فوقه كما لم تكترث بإقبال الليل الذي حاول جاهداً أن ينهرها لتعود إلى بيتها لكن دون جدوى. كان يوماً سيئاًَ في حياتها تكالبت عليها المشاكل وأطبقت عليها الحياة بفكي الهموم والصعاب ،حاولت الخلاص من بين فكيها فإذ بأقدامها تقودها للمكان الذي جمعها أول مرة بذلك الحب الذي خلف في قلبها ألم لا يفتر، انسكب الدمع من عينيها مدراراً ،وعادت الذكريات كسكاكين في قلبها قد انغرست، حتى المطر الذي يُربت على كتفيها ويمسح على شعرها لم تشعر بوجوده، صارت إمرأة في حالة يرثى لها ..هي كذلك حقاً ،لكن صوتاً أيقظها من رحلة التيه ،صوتٌ قاطع عزلة الروح ، صوتٌ مألوفٌ يرفُ مثل حمامة السلام في سماء أذنيها، يحمل لها غصن سلام، خاطبها قائلاً: لماذا تبكي الياسمينة ؟؟
التفت إلى صاحب الصوت ،وجدت وجها عهدته بابتسامته التي تزينه دوما ، رفيق طفولة، رفيق دراسة ،نظرت إليه متفاجئة، مسحت دمعها وقالت : حمزه ؟
- بشحمه ولحمه ولكن ما يبكي صديقتي العزيزة ؟
- لا عليك لا تشغل بالك ، يا لها من مفاجأة سارة هل هي عودة الابن الضال. أين اختفيت كل هذا الوقت دون سؤال هل أغرتك الدنيا فنسيت الطفولة والصداقة ؟
- أنا لم أنس شيئاً، أعترف بتقصيري، لكن ظروفي كانت قاهرة .
- المهم كيف أنت ؟
- بخير الحمد لله ، لكني أصر على معرفة سبب بكائك ولن أدعك حتى أعرفه .
- هي هموم الحياة وأوجاعها.
- هموم من أي نوع ؟
- هموم قلبية .
- هموم أم جروح حب ، هيا أخبريني تبدين كعاشقة رحل عنها حبيبها دون سابق إنذار أو أعذار .
- أنا كذلك يا حمزة ، آلمني وجرحني دون أن أعلم أي ذنب اقترفت في حقه حتى يكون هذا عقابي .
- ياسمينتي يبكيها رجل !! ايه لم أتخيلك أنت ذات القوة يبكيها رجل مهما كان .
- حتى الجبال تنهار .
- لم أعهدك ضعيفة ،لطالما أعجبتني قوتك وصلابتك .
- الحديد يلين إذا وضع في فرن مرتفع الحرارة .
- انسيه وتابعي حياتك .
- وهل النسيان بهذه السهولة ؟!!
- اسمعي لدي حل يخرجك من هذه الحالة السيئة.
- قل ماهو ؟
- ما رأيك أن تحبيني لليلة واحدة ،هذه الليلة فقط وسأكون نعم العاشق .
- حب لليلة واحدة ..ها ها ها ، مجنون كعادتك .
- إذاً موافقة .
- تعلمني أكثر جنونا منك. صدقاً سئمت هذا البؤس الذي تغرق فيه روحي .
- انسي انسي... الليلة أنت حبيبتي ، وأنا الآن أدعوك للعشاء في أفخر المطاعم سيدتي .
- ملابسي مبللة كيف سأذهب للمطعم بهذه الحالة ؟!
- إنها ليلة الجنون يا عزيزتي ، وأنا سأغلق مظلتي لنكون متساويين ، هيا بنا نطرق أبواب المطاعم ، ولنحص عدد المطاعم التي ستطردنا كما المتسولين بسبب مظهرنا الغير لائق .
- مجنون ...أعجبتني الفكرة.
أمسكت يده ، لكن هو طوقها بذراعه بكل رقة وحنان وسارا يطرقان أبواب المطاعم ، ويشاكسان طرقات المدينة.
يتراكضان تحت المطر ،يغنيان تارة وتارة يراقصان المطر ،يصرخان في وجه الضباب ،يجوبان الشوارع بحس طفولي، وعفوية، ويفعلان كل تلك الأمور السخيفة التي يمتنع عن فعلها الكبار بحجة المظهر الاجتماعي اللائق .
كانت ليلة أضحكت القمر وأسعدت النجوم ،لكن الصباح باغت الليل وطعنه من الخلف لينصب نفسه ملكا على عرش الأرض ليسجن ليلة الحب العفوي خلف قضبان الفناء. أشرقت الشمس وكان لابد من الفراق ، وقفا أمام منزلها ليودعا بعضهما ، نظرا لبعضهما طويلاً بصمت الشفاه وكلام العيون كانت ليلة مميزة لهما ،أدركت فيها أن القلب عاشق متلهف للفرح في ثناياه دوماً متسع للسعادة ،كان حب لليلة واحدة لكنها أدركت أن هناك حباً آخر طوقها الليلة وهو لآخر العمر ، فالعشق ليس أسمى معاني الحب هناك حب العطاء حب إسعاد الآخرين ،كان قلب حمزة أسمى من قلب عاشق كان قلباً رحيماً معطاءً ،يسعده سعادة غيره ،عهدته دوماً صديقاً وفياً لكن الليلة اكتشفت فيه أشياء أخرى اكتشفت فيه معنى أن تكون إنساناً بحق ومحباً بحق .
اكتشفت أنه يحبها منذ زمن ،لكن عندما علم بحبها لآخر ابتعد عن دربها حتى لا يبعثر مشاعرها عن طريق الخطأ ، هو محب بحق رضي منها بحب لليلة واحدة ،يعيش عليه بقية عمره كأجمل حب عاشه يوماً.
كان حبا لليلة واحدة ووفاءً لبقية العمر .