لا أعلم إلى اين سيأخذني إمتداد هذا البحر، أدمنت غروبه حد السأم، فأودع الغروب لأستقبل الليل بلهفة الصغار لصباح العيد ،وأحسب كل ليلة عيدي فتقطع الظلمة وصل الأماني المرتجاة،وتنكس الأحلام شوقي المتقد لرؤيتها زائرة لي في نومي .
في غروب كل يوم أجهد عقلي بالذكريات الباهتة ،لأصقلها من جديد فانا أخاف ان تضيع في زحمة الأفكار والأحداث المكتسحة خاطري، فأسير عبر ممر من نور يأخذني لطفولتي ،هناك لذلك العالم الوردي كان ملئه محبة وترابط ،كانت أمي فيه شمعة الميلاد، كنت أذوب أمام قسوتها الرقيقة وحزمها اللين ولا أمل مشاكستها، كانت تعشق ابتسامتي وأنا أهوى حضنها، كان أبي يحبها بقوة وكان حبهما يغمرني سعادة ، كنت أظنها سعادة ستدوم للأبد، لم يخطر في بالي يوماً أن تُهدم سعادتهما بيد أعراف مجتمعنا التي يقدسها لأنها تركة الاجداد لا لأنها تقوم على أساس شرع ودين أو حق وصواب ،في بيتنا كانت تقام طقوس السعادة ليل نهار، وفي جهة مقابلة او في بيت آخر عقد قران مصيره بمصير بيتنا بمباركة تلك الأعراف في الزواج التي يطلق عليها اسم "زواج البدل " هي عادة إجتماعية تُزوج فيها فتاة مقابل آخرى دون مهر فيرتبط مستقبلهما ببعضهما كارتباط في زواج كاثوليكي لا يفرق بينهما إلا الموت لا مجال أن يحيد مصير أحدهما عن مصير الاخرى .
في ذلك البيت الاخر " بيت خالي وعمتي " ، كانت أغربة البؤس تنعق فيه بالجراب، وتنذر بوقوع الطلاق في أي لحظة ،كنت مشغولة بحياتي أو كنت صغيرة كفاية حتى لا يشغل بالي مشاكل الكبار فلم أكن أهتم بذلك المصير الواقف على جرف هار،حتى سقطنا في ذلك الجرف فوقع الطلاق ، وتجبرت الأعراف والعادات البالية على جنتي الصغيرة وحكمت بتشتيت الحبيبين ،حاول أبي جاهداً أن يذود عن حبه ولكن تسلط جدي وسطوته قمعت ثورته ورضخ لمطلبه .
ايه ..ذلك اليوم وأنا أقف أنظر لأمي وهي تجمع ثيابها لتغادر ذلك البيت الذي أقفرت منه السعادة ،حاولت جيداً استيعاب ما يحدث فلم أستطيع عندها سألتها ببراءة الأطفال : الى أين ستذهبين ؟
نظرت لي والدمع ملئ عينيها وصمت ثم صمت وأشاحت بوجهها عني وشرعت بالبكاء ثم نظرت لي وسألتني : حلوتي أترغبين بالعيش معي أم مع أبيك ؟
سؤالها اربكني كنت في الثامنة من عمري متشوقة للنضوج فكنت دوماً أطالب أمي أن تعاملني كما الكبار يومها فعلتْ ووضعتْ بيدي دفة قرار مهم في حياتي وحياتهما، فصمت ثم صمت كيف أختار بين أبي وأمي كيف أختار بين عيني اليمنية واليسرى كلاهما جزء مني وفقد أحدهما مؤلم وبعده محزن ، لكني في لحظة قررت أن أتخذ قرار .
تقدمت نحوها فنظرت لي ضممتها بقوة وودت يومها لو ألتحم بها فلا نفترق أبداً قبلتها يومها قبلة لا أعلم تحديداً عما أردت أن أعبر عن أسفي على قرار سأتلوه عليها بعد لحظات أو عن حزني لفراقها قبلتها تلك القبلة وتراجعت خطوتين للوراء شعرت لحظتها أني كبرت أعوام كثيرة نظرت لها بحزم وقلت : قررت أن أعيش مع أبي .
بكت يومها بحرقة لازال صوت بكائها يئن في رأسي تقدمت نحوي لتحتضني وربما أرادت تقبيلي لكني فررت هاربة منها خرجت من البيت الى الحديقة كان أبي يقف في طرفها صامتا وقفت قربه وصمت أيضاً لم ألتفت ورائي لأنظر إذا تبعتني ، وغادرت يومها دون أن أراها ،أعلم جيدا أنها احترمت قراري ، كنت صغيرة نعم ،لكني أدركت ببراءة الأطفال أن أبي بحاجة لي اكثر منها فأبي كان في تلك اللحظة الطفل الذي أجبر على كسر لعبته المفضلة أي حزنه كان يسكنه هكذا أدرت حواري الداخلي كان أبي في نظري طفل تخلى عن كنزه ، هو كذلك فعلا أحب أمي بشغف فلم يتزوج بعدها ،هي لم تجد مفر من الزواج حتى لا تبقى تحت رحمة أسرتها ، كنت أزورها بأوقات متقطعة رؤيتها كانت تؤلمني رغم اشتياقي لها ،لم أقبلها أبدا كنت أُبدي امتعاضي كلما حاولت لاقتراب مني لتقبيلي فتبتعد ، كنت طفلة قاسية على أمٍ لا ذنب لها في أقدار مرسومة لنا .
أعوام مضت ،وها أنا كل ليلة أخلد للنوم متوسلة الأحلام أن تأتيني بها لتقبل جبيني ، أعشق قبلتها حلماً وأرفضها واقعاً، فأنا أريد للقبل المتبادلة بينا أن تحمل في ذاكرتها أن آخر قبلة كانت بينا قبلة أسفي لها يوم تخليت عنها .